كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوز أن يكون منصوبًا بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولًا به لا ذكر محذوفًا، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم.
وأجاز الحوفي وابن عطية كونها نعتًا ليوم، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفًا وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول: إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالاضافة إليها كالإضافة إليها: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي إلا باذن الله تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38] وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم، وقوله تبارك وتعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36] في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] في آخر منها، وروي هذا عن الحسن.
وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار الباطلة، نعم قد يؤذن فيها أيضًا لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 32] ونظائره، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى، وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقوله سبحانه: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36] وكذا قوله جل وعلا: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الصافات: 27] اختلافًا بحسب الظاهر، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة، وعلى ما ذكروه يكون معنى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، والجواب السديد عن ذلك أن يقال: إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقًا بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة، ويجري هذا المجرى قولهم: خرس فلان عن حجته، وحضرنا فلانًا يناظر فلانًا فلم نره قال شيئًا وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفى عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه، ومثله قول الشاعر:
أعمى إذا ما جارتي خرجت ** حتى يوارى جارتي الخدر

ويصم عما كان بينهما ** سمعي وما بي غيره وقر

وعلى هذا فلا اختلاف لأن التساؤل والتلاؤم مثلا لا حجة فيه، وأما قوله سبحانه: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] فقد قيل فيه: إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يتعذرون، ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعبادة ملجأون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار، وأحسن من هذا أن يحمل: {يُؤْذَنُ لَهُمْ} أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم انتهى.
وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضى لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفًا للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلا المكان، واتحاد الزمان والمكان من شروط تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد مّا لا يخفى.
وقال بعض الفضلاء: لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت، وقال ابن عطية: لابد من أحد أمرين: إما أن يقال: إن ما جاء في الآيات من التلاؤم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى، والاستثناء قيل: من أعم الأسباب أي لا تكلف نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وه متصل، وجوز أن يكون منقطعًا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا باذنه تعالى، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه، وقرئ كما في المصاحف لابن الأنبار يوم يأتون لا تكلم دابة إلا باذنه: {فَمِنْهُمْ} أي أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أو الجميع الذي تضمنه: {نَفْسٌ} إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية، أو الناس المذكور في قوله سبحانه: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} [هود: 103] ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدًا لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك، والظاهر أن: {مِنْ} للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: {شَقِىٌّ} مبتدأ، وقوله تعالى: {وَسَعِيدٌ} بتقدير ومنهم سعيد، وحذف منهم لدلالة الأول عليه، والسعادة على ما قال الراغب: معاونه الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه، ثم قال: والسعادة ضدها، وفي القاموس ما يقرب من ذلك، فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد، والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين، وتقديم الشقى على السعيد لأن المقام مقام الانذار والتحذير.
{فَأَمَّا الذين شَقُواْ} أي سبقت لهم الشقاوة: {فَفِى النار} أي مستقرون فيها: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قال أهل اللغة من الكوفية والبصرية: الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه، قال رؤبة:
حشرج في الصدر صهيلا أو شهق ** حتى يقال ناهق وما نهق

وقال ابن فارس: الزفير إخراج النفس، والشهيق رده، قال الشماخ في حمار وحش:
بعيد مدى التطريب أول صوته ** زفير ويتلوه شهيق محشرج

وقال الراغب: الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملًا بمشقة فتردد فيه نفسه، ومنه قيل: للإماء الحاملات الماء: زوافر، والشهيق طول الزفير وهو رد النفس، والزغير مده، وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول.
وعن السائب أن الزفير للحمير، والشهيق للبغال وهو غريب، ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه، أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام استعارة تمثيلية أو استعارة مصرحة، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: يريد ندامة ونفسًا عاليا وبكاءًا لا ينقطع، وقرأ الحسن: {شَقُواْ} بضم الشين فاستعمل متعديًا لأنه يقال شقاه الله تعالى كما يقال أشقاه، وجملة: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} إلخ مستأنفة كأن سائلا قال: ما شأنهم فيها؟ فقيل لهم فيها كذا وكذا، وجوّز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز وجل: {خالدين فِيهَا} خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} أي مدة دوامهما، وهذا عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع على منهاج قول العرب: لا أفعل كذا ما لاح كوكب، وما أضاء الفجر، وما اختلف الليل والنهار، وما بل بحر صوفة.
وما تغنت حمامة إلى غير ذلك من كلمات التأبيد عندهم لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السموات والأرض، فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما، وروي هذا عن ابن جرير، وجوز أن يحمل ذلك على التعليق والمراد بالسموات والأرض سموات الآخرة وأرضها، وهي دائمة للأبد، قال الزمخشري: والدليل على أن لها سموات وأرضًا قوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] وقوله سبحانه: {وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] ولأنه لابد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء انتهى.
قال القاضي: وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه، وأجاب عنه صاحب الكشف بأنه إذا أريد ما يظلهم وما يقلهم فهو ظاهر السقوط لأن هذا القدر معلوم الوجود لكل عاقل واما الدوام فليس مستفادًا من دليل دوام الثواب والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة والنار سواء عرف أنهما دار الثواب والعقاب وأن أهلهما السعداء والأشقياء من الناس أولًا على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل العكس انتهى، وتعقبه الجلبي بأن قوله: لكل عاقل غير صحيح فانه لا يعترف بذلك إلا المؤمنون بالآخرة، وقوله الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة والنار لا يدفع ما ذكره القاضي لأنه يريد أن المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرف كليهما من قبل الأنبياء عليهما السلام وليس فيه ما يوجب أعرفية دوام سموات الآخرة وأرضها وليس مراده أن دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهمه ليمنع ولا عند غير المتدين فانه لا يعترف به ولا بها ولا يعرفه، وقوله: على أنه ليس من تشبيه إلخ مبني على أنه تشبيه تلك الدار بهذه الذار وليس بذلك، وإنما المراد التشبيه الضمني لدوامهم بدوامهما انتهى، وفيه بحث.
والحق أن صحة إرادة ذلك مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وفي الاختبار عن ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ما يقتضيه، ومن تأمل منصفًا بعد تسليم أن هناك تشبيهًا يظهر له أن المشبه به أعرف من المشبه وأقرب إلى الذهن، واتحاد طريق العلم بهما لا يضر في ذلك شيئًا بداهة أن ثبوت الحيز أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني، نعم المتبادر من السموات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا، فالأولى أن تبقى على ظاهرها ويجعل الكلام خارجًا مخرج ما اعتادته العرب في محاوراتهم عند إرادة التبعيد والتأبيد، وهو أكثر من أن يحصى، ولعل هذا أولى أيضًا مما في تفسير ابن كثير من حمل السموات والأرض على الجنس الشامل لما في الدنيا والآخرة أي المظل والمقل في كل دار، وفي الدرر أنه يمكن أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدة بقاء السموات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم سبحانه على ذدلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم، ولعله أراد مدة بقائهما منذ خلقهما الله تعالى إلى أن يبدلهما لا مدة بقائهما بعد دخولهم النار يوم القيامة لأنهما يبدلان قبل دخولهم.
والآية على هذا من قبيل قوله سبحانه: {لابثين فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23]: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} قيل: هو استثناء من الضمير المستكن في: {خالدين} وتكون: {مَا} واقعة على نوع من يعقل كما في قوله سبحانه: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] أو واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها عليه مطلقًا.
والمراد بمن شاء فساق الموحدين فإنهم يخرجون منها كما نطقت به الأخبار، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فانهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، والتأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، ألا ترى أنك إذا قلت: مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال: فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] تقسيمًا صحيحًا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قم منفية عن قسيمه لأن ذلك الشرط حيث الانفصال حقيقي أو مانع من الجمع، وهاهنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وأن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين انتهى، وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي، واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالاستثناء يقتضي إخراجًا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول، فكيف ينتقض بما سبق عليه؟ كيف وقد سبق قوله تعالى: {فِى الجنة}؟ ثم قيل: فإن قلت: زمان تفرقهم عن الموقف هو الابتداء وهو رخر يوم يأتي قلت: إن ادعى أن الابتداء من ابتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير، وأما جعل ابتداء المدة من انتهائه فلا، وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجمع مطلقًا؛ وأجيب بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار، ويدل على ذلك اتحاد معيار الخلودين، وهو: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} فإنه يدل على زمان خلودهما ولا اتحاد مع الاختلاف في المبدأ، والاستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة.
وخلاصة المعنى على هذا أن الشعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا، وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لاجتماعهما في العصاة، وإن أريد مطلقًا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى انتهى.
ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والانتصار له بما ذكر لا يجديه نفعًا، وقيل: هو استثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار، وكذا يقال فيما بعد: إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانًا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى، وإلى هذا ذهب الزمخشري سالًا سيف البغي والاعتزال، وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك.
وقال صاحب الكشف: إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبًا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {نَارًا تلظى} [الليل: 14]: {نَارًا وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6] وكم، وكم، وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله سبحانه: {خالدين فِيهَا} لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلًا عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل، وكفاه بطلانًا التخيص من غير دليل، واعترض بأن لك أن تقول: هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف، وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقًا.
وقيل: إن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات و: {مَا} على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في النار، والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانًا شاء الله تعالى فيه عدم كونهم فيها وهو زمان موقف الحساب، واعترض بأن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى وليس كذلك، أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار وهو خلاف مذهب أهل السنة، وأيضًا تأخره عن الحال ولا مدخل لها في الاستثناء لا يفصح، والإبهام بقوله سبحانه: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} والتفخيم الذي يعطيه لا يبقى له رونق، وأجيب بأنه قد يقال: إن القائل بذلك يخص الأشقياء بالكفار والسعداء بالأتقياء ويكون العصاة مسكوتًا عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان سنيًا وإن كان معتزليًا فقد وافق سنن طبعه، ويجاب عما بعد بالمنع، وقيل: أمر الاستثناء ما علمت إلا أن المستثنى مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ ويقطع النظر عن: {يَوْمَ يَأْتِى} [هود: 105] والمعنى أنهم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زمانًا شاء الله تعالى لبثهم في الدنيا أو البرزخ، والمراد مع زمان الموقف إذ ليسوا في زمانه أيضًا في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فلا يحتاج للمعية لكن يرد أنهم معذبون في البرزخ أيضًا إلا أن يقال: لا يعتد بذلك لأنه عذاب غير تام لعدم تمام حياتهم فيه، وأورد عليه ما أورد على ما قبله، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأول وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على تعيين زمان حتى لا يمكن الزيادة عليه وهو كما ترى.